منذ اندلاع ثورات الربيع العربي، قبل عامين، ونزول الشعب إلى شوارع وميادين مدن عديد من الدول العربية، بدا واضحاً من الشعارات التي رفعتها هذه الثورات، والهتافات التي رددتها حناجر المتظاهرين، أن ثمة تحولا أساسيا ونوعيا في الإدراكات السياسية للشعوب العربية، من القضايا العامة، أو من القضايا "القومية" إلى القضايا الوطنية التي تهم المواطنين في بلدانهم.
لم يكن هذا التحول عرضياً، ومفاجئاً، إذا أردنا أن نؤرّخ للإدراكات السياسية التي وسمت التحركات السياسية للجماهير العربية في بلدان هذه المنطقة، حيث كانت قضايا فلسطين والوحدة العربية والاشتراكية ومقاومة الإمبريالية احتلت المكانة المركزية في سلم أولويات القوى المحركة للأحداث السياسية التي عصفت بالبلدان العربية، لاسيما في المشرق العربي، طوال النصف الثاني من القرن العشرين.
والواقع فإن الوحدات السياسية المشكلة للنظام الرسمي العربي أخفقت في كل واحدة من تلك الاختبارات، بل إنها بدت بمثابة عقبة كأداء أمام إمكان تطور البلدان والمجتمعات العربية، باتجاهات الدولة والمواطنة والديمقراطية والحداثة ومحاكاة العالم.
وفوق هذا وذاك، فقد ظهرت النظم المهيمنة في تلك الوحدات باعتبارها مجرد سلطات شمولية، يقع في مركز اهتماماتها ترسيخ سيطرتها على البلاد والعباد، والتحكم في الموارد، أكثر من أي شيء، وعلى حساب أي شيء، آخر. وهذا الإخفاق ينطبق، أيضا، على مواجهة التحدي الذي فرضه وجود إسرائيل في هذه المنطقة.
نعم لقد انكشف النظام الرسمي على حقيقته، ولم تعد تنفع محاولاته التغطية على واقع الاستبداد والإفساد بقضية فلسطين، أو بدعوى مواجهة التحديات الخارجية، والأنكى أنه ظلّ، طوال العقود الماضية، يبرّر إخفاقاته في التنمية وحجبه الديمقراطية وانتهاكاته حقوق الإنسان، ومبالغته في العسكرة وتغوّل الأجهزة الأمنية، بدعوى مواجهة إسرائيل، ملوحا بشعار: "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة".
هكذا، وفي غضون كل ذلك، اكتشفت الشعوب العربية، وبثمن باهظ، دفعته من عمرها ومعاناتها، وقهرها، أن إسرائيل هذه إنما استقرت وتطورت، وواصلت تحديها للواقع العربي في مختلف المجالات، بالذات في ظل هذه النظم التي تحكمت في بلدانها، وهمشت مجتمعاتها، لاسيما أن ذلك لم يقتصر على الجانب العسكري وإنما شمل نظام الحكم والإدارة والتنمية البشرية والاقتصاد.
مثلاً، وعلى رغم أن الدول العربية تقوم على مساحات واسعة، وتستحوذ على موارد طبيعية هائلة، وفيها كتل بشرية كبيرة، فإن إسرائيل المحدودة والصغيرة، والتي تضاعف سكانها اليهود بعد 65 عاماً تسع مرات (1948 - 2013)، من سبعمائة ألف إلى ستة ملايين، تضاعف ناتجها المحلي السنوي حوالي ستين مرة من أربعة مليارات دولار (1950)، مع حصّة للفرد قدرها 3100 دولار، إلى 242 مليار دولار (2011)، مع حصّة للفرد قدرها 31 ألف دولار، ما جعل إسرائيل بين الدول الخمس عشرة الأولى في العالم على صعيد دخل الفرد. فوق ذلك فإن إسرائيل لا تعاني من البطالة (6.5 بالمائة).
وكما قدمنا فإن إسرائيل هذه لم تتفوق على العالم العربي بقدراتها الاقتصادية والتكنولوجية فقط، فهي إضافة إلى ذلك تفوقت أساسا في مجال التنمية البشرية وإدارة المجتمع ونظام الحكم. فقد نشأ النظام السياسي الإسرائيلي على قواعد ديمقراطية، وعلى أساس النظام الحزبي، وفصل السلطات، وتداول السلطة؛ وهو ما تفتقده النظم العربية.
أما في ما يخصّ الحديث عن الحروب العربية الإسرائيلية، وادعاء أنها شغلت البلدان العربية عن التنمية والتحديث، واستنزفت قواها ومواردها، فقد بينت التطورات الأخيرة أن الإنفاق العسكري للنظم العربية لم تكن له علاقة بالحروب مع إسرائيل، فحتى الجيوش لم تؤهّل لذلك، لا من حيث التدريب والأهلية ولا من حيث العقيدة العسكرية، فضلاً عن أن التاريخ يفيد بأن حرب 1973، التي مضى عليها أربعة عقود، كانت آخر حروب الجيوش العربية مع إسرائيل. وهذا يبيّن أن قضية فلسطين، بالنسبة للنظام الرسمي العربي، لم تكن حقاً على رأس الأجندة، بالقدر الذي يتناسب مع ادعاءات الأنظمة المعنية بذلك، بقدر ما كانت قضية استخدامية، أو وسيلة للمزايدة والابتزاز.
لا شكّ أن ما يجري في سوريا يؤكد ذلك، ذلك أن نظامها كان يتحجج بالمقاومة والممانعة فقط لإضفاء الشرعية على وجوده، وتكريس سلطته الشمولية، ومصادرة المطالبات الشعبية المتعلقة بالحركة والكرامة والديمقراطية ورفع مستوى المعيشة. بل إن الأسلحة التي تم تكديسها في المخازن تم توجيهها لإمعان القتل في السوريين وتدمير ممتلكاتهم وعمرانهم. هكذا فإن هذا النظام الذي أوقف المقاومة في جبهة الجولان منذ أربعين عاما، بدعوى بناء البلد، ها هو يدمر البلد على رؤوس أصحابها للحفاظ على سلطته!
على أية حال فإن مجرد اندلاع الثورات الشعبية العربية، التي تركزت شعاراتها على حاجات المواطنين، أثار التساؤلات بشأن مكانة قضية فلسطين في الواقع العربي الجديد الذي يتشكل، وانعكاس هذه الثورات على معادلات الصراع العربي الإسرائيلي، كما بشأن كيفية تمثل الفلسطينيين لمعاني هذه الثورات الديمقراطية في كفاحهم ضد عدوهم، وفي شكل وجودهم في تلك البلدان.
معلوم أنّ البعض كان قد أخذ على هذه الثورات استغراقَها في الشأن الوطنيّ (الداخليّ)، بتركيزها على تغيير النُظُم التسلّطيّة السائدة، وعدم التفاتها إلى ما وراء حدود مواطنها الجغرافيّة، وعدمِ رفعها شعاراتٍ تخصّ قضيّة فلسطين ومعاداة إسرائيل.
والواقع فإن هكذا نظرة تبدو متسرعة، وتنم عن تعسف، ومصادرة على المستقبل، لأن تلك الثورات مازالت لم تعبر عن ذاتها، في ما يتعلق بالشؤون الخارجية، هذا فضلا عن أن هذا السؤال، الذي ينطوي على تشكك بالثورات، يغفل، أو يغطي على النظم التي تمت الثورة عليها، والتي كانت تتعايش مع وجود إسرائيل، وتتلاعب بقضية الفلسطينيين.
في هذا الإطار يمكن الاعتقاد بأن الثورات التي اندلعتْ من أجل تمكين المواطنين، في البلدان المعنيّة، من وعي ذاتهم، واستعادةِ حقّوقهم المسلوبة في الحريّة والكرامة والعدالة، لا بدّ أن تنجم عنها سياساتٌ خارجيّةٌ تنافح، أيضًا، عن هذه القيم، كتحصيل حاصل، وإن اقترن ذلك في المراحل الانتقالية ببعض الثغرات أو التقصيرات والمشكلات، النابعة من تعقيدات أي مرحلة تاريخية انتقالية.
ولعله بات من المطلوب القطْعُ مع تلك النظرة الخاطئة التي لا تربط بين تمكين المواطنين من الحريّة والكرامة والعدالة في الداخل، وبين القدرة على تحقيق كلّ ذلك إزاء الخارج، لاسيما أن التجارب المعاشة بيّنت، وبثمن باهظ، أنّ حرمان المواطنين من حقوقهم الأساسية، وامتهان كراماتهم، يؤدي بداهة إلى إضعاف المجتمع والدولة وانكشافهما إزاء التحدّيات الخارجيّة.
مع ذلك فليس القصد من كلّ هذا الكلام المبالغةَ في انعكاس الثورات الحاصلة على قضيّة فلسطين، فما زال ثمّة شوط طويل ينبغي قطعه للتأكد من مآلات ما يحصل، وما زالت موازينُ القوى العسكريّة مختلّة لغير صالح العرب.
وإذا كان صحيحًا أنّ هذه الثورات لابد أن تنتصر لقضيّة فلسطين في نواحٍ عدّة، فإنّ ما ينبغي إدراكُه جيّدًا هنا هو أنّ هذه الثورات ينبغي أن تنتصر أساسًا لتصوّرها الجديد عن ذاتها، أيْ عن كرامة دولها ومواطنيها، لأن هذا هو المدخل المنطقي والصحيح لمقاومة إسرائيل ونصرة الفلسطينيين.
أما بالنسبة إلى الفلسطينيين فإن هذه الثورات تفيد بضرورة تعزيز إدراكاتهم لحقيقة أساسية مفادها أن هذا الزمن هو زمن الثورات الوطنيّة التي تتوخّى إعادةَ الاعتبار إلى المواطنين بوصفهم ذواتًا حرّة، وإعادةَ صوغ هويّتهم الوطنيّة وتعزيز وحدتهم المجتمعيّة بوصفهم شعبًا (لا عشائر وإثنيّات وطوائف ومذاهب)، والتركيز على استعادة حقوقهم المسلوبة، في الحريّة والعدالة والكرامة والتغيير الديمقراطيّ وبناء الدولة الحديثة دولةِ المؤسّسات والقانون والمواطنين.
على أية حال فإنّ الثورات التي تتوخّى إقامة وضع عربيّ جديد، قوامُه صعودُ دور المجتمعات في تقرير مصيرها، لابد أن يساهم في تحرير الفلسطينيّين، أيضا، من إملاءات النظام الرسمي العربي، ومن وصاية الفصائل القائمة، ولابد أن يحثهم على توليد المبادرات لتطوير نظامهم السياسي.
أيضًا يمكن تلمّسُ أثر الربيع العربي في ما يمكن أن يسهم به في إعادة صوغ ثقافة الفلسطينيين السياسية، وثقافة حركة التحرر الوطني خاصتهم، عبر إضفاء مضامين ومعايير إنسانية وعصرية وديمقراطية عن مفهومهم للتحرير، بحيث لا يقتصر فقط على تحرير الأرض/الإقليمي، وبحيث يشمل قيم العدالة والمساواة والديمقراطية ونوعية الحياة وشكل النظام السياسي.
صحيح أنّ المفاهيم المتعلقة بهذه القيم لم تغبْ تمامًا عن خطاباتهم، خصوصًا تلك المتمثلة في خيار حلّ "الدولة الواحدة الديمقراطيّة العلمانيّة،" لكنها تبدو اليوم بحاجة إلى مزيد من الرسوخ، لوضع حد للمعادلات السياسية القائمة التي باتت تعتبر الصراع على فلسطين مجرد قضية عقارية، أو قضية إغاثية.
وفي الواقع فإن المفهوم الإقليميّ (الأرض) للتحرّر الوطنيّ، أي المفهوم الذي يتمحور حول مجرّد الصراع على الأرض، أو على الاستقلال في دولةٍ على جزء من أرض (لجزء من الشعب)، ما عاد كافياً ولا مقنعاً، وربما ما عاد متاحاً على ضوء الواقع الإسرائيلي المفروض في الضفة. فوق ذلك فإن تجربة الاستقلالات العربيّة لا تشجّع على ذلك، فضلاً عن أن ذلك لا يحل كل الأمور، ولا يلبّي مطالب كل الفلسطينيين المتعلّقة بالحقيقة والعدالة والتحرّر والديمقراطيّة والمواطنة.
على ذلك فإن الثورات الشعبية العربية، على علاتها ومشكلاتها ونواقصها، فتحت نافذة فرص جديدة أمام الفلسطينيين، تمكّنهم من توسيع خياراتهم، والتحرر من الانحصار في خيار واحد ووحيد، وهو خيار الدولة المستقلة في الضفة والقطاع، إن بخلقها واقعا سياسيا جديدا في المنطقة، أو بإنهائها أسطورة إسرائيل كالديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، ذلك أن قيام دول المواطنين الديمقراطية، في البلدان العربية، يسهم بدوره في إضفاء مشروعية على طرح خيار "الدولة الواحدة الديمقراطية العلمانية" للفلسطينيين والإسرائيليين، التي تنشأ بتقويض المرتكزات الأيديولوجية والأمنية للصهيونية بمختلف تجلياتها.
ومن جهة إسرائيل فإن مجرد قيام دولة المواطنين الديمقراطية - المدنية/العلمانية، في عديد البلدان العربية، سيضعها في زاوية جدّ حرجة، إزاء نفسها والعالم، إذ سينهي تبجّحها باعتبارها بمثابة "واحة" للديمقراطية ويظهرها على حقيقتها كظاهرة رجعية في هذه المنطقة، وباعتبارها مجرد دولة استعمارية وعنصرية ودينية، بخاصة مع تمسّكها بتعريف ذاتها كدولة يهودية.
أما على الصعيد الداخلي فإن أي تغيير في البيئة السياسية العربية باتجاه الدولة والديمقراطية لا بد أن يفضي إلى تغيير نوعي في النظام الفلسطيني وخريطته الفصائلية، ما يفيد بالتخلّص من هيمنة الفصائل على المجتمع ومن عديد من الاستطالات الفصائلية التي لم يعد لها أية فاعلية في مواجهة العدو ولا تحظى بأي تمثيل في المجتمع، ما يفتح على استنهاض الوضع الفلسطيني على قاعدة الوحدة وعلى أسس وطنية ومؤسساتية وديمقراطية وتمثيلية. وبالنسبة إلى حال الفلسطينيين اللاجئين، في بعض البلدان العربية، فإن قيام دولة المواطنين الديمقراطية في تلك البلدان، لا بد سينصفهم بحيث لا يعودوا مجرد حالة أمنية أو سياسية أو استخدامية يجري التلاعب بها، أو استهدافها لصالح هذا النظام أو ذاك.
ولعله بعد كل هذه التجارب والخيبات والهزائم بات من الضروري إدراك حقيقة مفادها أن لا أوطان حرّة من دون شعوب حرّة ومواطنين أحرار، وأن وضع المقاومة أو فلسطين في وجه الثورات ما عاد مقبولاً ولا مقنعاً البتة، ففلسطين ليست مجرد قطعة أرض، وإنما هي أيضا معنى للحرية والكرامة والعدالة.
إرسال تعليق